top of page

تحقيق المخطوطات العلمي

إن الكتب المؤلفة في علم تحقيق المخطوطات استمدت قواعدها، في الغالب، من تجارب مؤلفيها في عالم التحقيق، فإذا كانت هذه التجارب تختص بالمخطوطات الأدبية، جاءت تلك القواعد لتعالج طرق تحقيق هذا النوع من المخطوطات، وهكذا الحال فيمل يتعلق بالمخطوطات الباحثة في حقول المعرفة الأخرى. صحيح أن ثمة قواعد ثابتة تعد قواسم مشتركة للتحقيق، على اختلاف ضروب الكتب المحققة، من قبيل جمع النُسَخ المخطوطة، وتحديد النسخة الأم من بينها، ومقابلتها على غيرها، وما إلى ذلك، إلاّ أن تطبيقات تلك القواعد تختلف - إلى حدٍ ليس بالقليل - بين ضرب وآخر. ومن الملاحظ أن جميع ما أُلف في قواعد التحقيق، جاء - إلى حد الآن - ليُلبّي حاجة المحققين في العلوم الأدبية، واللغوية، والتاريخية، والفقهية، وماهو داخل في نطاقها بوجه عام، بيد أن ثمة ضروباً من العلم لمّا تزل بحاجة إلى قواعد تراعي خصوصيتها، وتستجيب للاختلافات، وإن كانت يسيرة أحياناً، بينها وبين غيرها من العلوم، وبخاصة العلوم البحتة، مثل الكيمياء، والطبيعة، والحساب، والهندسة، والفلك، والطب، والصيدلة، وعلم الأرض، والحِيَل (الميكانيك)، والعلوم العسكرية وغيرها. وتبتدئ هذه الاختلافات من مرحلة انتقاء المخطوط، مشروع التحقيق، وحتى آخر مراحل إخراجه للقراء. وسنحاول فيما يلي أن نأتي - بسرعة - على بيان بعض ما يختص به عمل المحقق لمثل هذه العلوم، وذلك على النحو الآتي:-


1- اختيار المخطوط: ثمة مخطوطات كثيرة جداً في كل مجال من مجالات العلم، فلابد من تحديد معيار واضح يجري على أسسه اختيار المخطوط الذي سيُعنى به المحقق، فإن لم يجد مثل هذا التحديد، ضاعت جهود كبرى في أعمال ضئيلة القيمة، وتبدّد وقتٌ طويل فيما لا طائل تحته، ونعتقد أن أسس هذا المعيار في الاختيار هي:

أ- أن يقدم المخطوط إضافة جديدة للمعرفة، كأن يتضمن فكرة أو أفكاراً لم يسبق أن تناولها مؤلف من قبل، أو ألمح إليها عالم في المجال الذي تبحث فيه. ولا يعني هذا أن تكون كل أفكار الكتاب جديدة، أو رائدة في بابها، فأمر كهذا بعيد عن التصور، ولا يتوفر إلاّ في النادر من الكتب، ولكن قد يضم الكتاب فكرة واحدة تستحق، لجدَّتها، أن يُبذل الجهد في تحقيقه كله، فكتاب (شرح تشريح القانون) لابن النفيس (المتوفي سنة 687هـ/ 1288م) يتألف من خمسة بحوث، لم تلق من اهتمام الأطباء المسلمين ما لقيته مؤلفات طبية أخرى، إلاّ أن بضعة نصوص منه اثارت اهتمام الاطباء المُحدثين إلى الحَد الذي جعل اسم ابن النفيس يفرض نفسه على أوساط العلماء في كل مكان، وهذه النصوص هي التي وصَفَ فيها الدورة الدموية في الرئة، وتقريره بأن عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في أجوافه، فهذه النصوص على قِصَرها النِسبي جعلت من الكتاب واحداًً من أبرز المؤلفات الطبية في العالم. وكتاب (منافع الأحجار) لعُطارد الحاسب البغدادي (المتوفى سنة 243هـ/ 857م) أكثر فيه مؤلفه "من العزائم والرُّقي فاسترذِل" على حد تعبير البَيْروني (الجماهر ص 217) ولكنه مع هذا انفرد بسَبقين عالميين، هما اكتشافه لخاصية الدَسامة Oilness في الحجر، وخاصية الصلادة Hardness فيه، فهذان الاكتشافان يكفيان في تقديرنا أن يكونا مبرراً لتحقيق الكتاب ونشره على الرغم مما اعتَوَر الكتاب من هنات كما تقدم. وكثيرة هي كتب الكيمياء التي خصصت معظم فصولها لوصف طُرق موهومة لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب أو فضة، وليس في هذا جِدَّة بالطبع، إلاّ أن المهم فيها يكمن في جوانب، أو ربما فقرات متناثرة، تناولت موضوعات كيميائية علمية حقيقية، لم يقصد مؤلفو تلك الكتب أن تكون من غايتهم. ب- أن يؤكد الكتاب على فكرة علمية صحيحة قال بها بعض العلماء في عصر مضى، ولكنها نُسِيَت، أو تنوُسِيَت، في العصور التالية لأسباب مختلفة. من ذلك مثلاً أن ظاهرة انفجار النجوم الضخمة وتحويلها إلى شظايا مادية وإشعاعات وغازات تندفع بعيدا عن مركزها، كانت على الدوام من الظواهر التي أهتم بها الأقدمون بوصفها تجلب النحس للإنسان، إلاّ أن نصا واحدا في وصف هذه الظاهرة، أورده علي بن رضوان (المتوفي سنة 460هـ/ 1067م) في كتابه (شرح المقالات الاربعة في القضايا بالنجوم لبطليموس) جعل من هذا الكتاب مهماً، ليس بوصفه كتاب طب فحسب، ولكن بصفته يحتوي على معلومات دقيقة، وان لم تكن جديدة، لإحدى أهم الظواهر الفلكية في الكون. ومثل هذا أن فكرة دَوَران الأرض حول الشمس كانت معروفة في بعض الأوساط العلمية في بلاد الإغريق القديمة، لكنها تنوسيت في العصور الوسطى بتأثير الكنيسة، وشاعت بدلها فكرة معاكسة تماماً، تقول بثبات الأرض ودوران الشمس حولها، فإذا وجدنا مخطوطاً عربيا أكَّدَ، ولو في فقرة واحدة تلك الفكرة الصحيحة، فان أهمية هذه الفقرة، ورغم عدم جِدَّتها، تكمن في أنها أثبتت مَيزة الحضارة الإسلامية في أنها رَعَت هذه الفكرة في عهود التخلف لتصل بها إلى العصر الحديث، وتلك ميزة كبرى تستحق أن تكون سببا في تحقيق المخطوط كله، حتى لو كانت معلوماته الأخرى عادية تماماً. جـ - وربما لم يحو مخطوط شيئا من ذلك كله، لكنه ازدان بصُوَر أو أشكال هندسية أو جداول رياضية، وضَّحَت ما أراد المؤلف أن يقدمه للقارئ، فمثل هذه الوسائل يمكن أن يكون سبباً رئيسياً لجعل المخطوط يغدو مهما، فقد تساعد هذه الاشكال والصور والجداول على فهم فكرة ما، بما تقدمه من بيانات دقيقة، أو أنها تصلح أن تكون، لوحدها، موضوعا لدراسة مستقلة. مثال ذلك أن مخطوطة (منافع الأحجار) لعطارد الحاسب (نسخة باريس) احتوت على نحو خمسين صورة لبشر وحيوان في أشكال وأزياء مختلفة، وسبب وجودها في المخطوط هو ما اعتقد مؤلفه أنها تملك تأثير سحرياً إذا ما نقشت على بعض الأحجار الكريمة، والفكرة في حد ذاتها لا تقوم على أساس علمي مفهوم، ولكن الصور نفسها ذات قيمة فنية عالية، تصلح ان تكون موضوعا لدراسة فنية قيمة. ومثل هذا ما رأينا في مخطوطة (خواص الأحجار) لحُنيْن بن اسحق، فالمخطوط (نسخة باريس) يكاد يكون نسخة منقولة عن نص عُطارد، فلا أهمية تذكر فيه، إلاّ أن الصُّوَر التي حواها اختلفت في تفاصيلها عن الصور سابقتها، وإن اتفقت معها من حيث الموضوعات، وفي دراسة تلك التفاصيل مادة مهمة، كانت موضوعاً لدراسة (الأزياء) في القرن الثالث للهجرة، بالمقارنة بين المخطوطين المذكورين. وهنا لا بد أن يلاحظ المحقق ما إذا كانت هذه الصور والأشكال من أصل نص المؤلف ام أُضيفت اليه في وقت تالٍ للتوضيح. د- ومن مبررات اختيار مخطوط لتحقيقه، ما يتضمنه من مصطلحات علمية تساعد على فهم معانٍ غامضة، أو تجارب مختبرية قصّر دون فهمها الجهل بتلك المصطلحات، وقد يكون قد أُلّف أصلاً لتيسير الوقوف على هذا الجانب المهم، مثل كتب الخوارزمي في (مفاتيح العلوم) وحسين بن نوح القُمْري في (التنوير في المصطلحات الطبية)، والقرطُبي في (شرح أسماء العقار)، وابن الأكفاني في (إرشاد القاصد)، والسيد الجرحاني في (التعريفات)، ومحمد بن يوسف الهَرَوي في (جواهر اللغة) في المصطلحات الطبية (ويلكم بلندن) وغير ذلك، أو ان يكون الكتاب مما تكثر فيها المصطلحات المشروحة، أو المُوَضِّحة، فيفيد منها محقق المخطوطات التي تتناول حقولاً معرفية لا تفهم مضامينها إلاّ بها. هـ- ومن تلك المبررات أيضا، أن يكون المخطوط شرحاً، أو حاشية، على كتاب علمي مهم، فتأتي شروحه وتعاليقه موضحة للأصل، مُبيِّنة لمَراميه، وهو أمر متوقع من شارح قريب زمناً من عهد مؤلف الأصل، ومن ثمَّ هو أقدر على فهم لغته ومصطلحاته وأفكاره من باحثين متأخرين عليه بمُدَدٍ متطاولة، وعلى سبيل المثال فإن كتاب (تقدُمَة المعرفة) لأبقراط الذي نقله حُنين بن إسحاق إلى العربية، توجد منه مخطوطتان، أولاهما بشرح ابن أبي صادق النيسابوري (باريس)، وأخرى بشرح الدخوار الدمشقي (أيا صوفيا وبودليانا). وبالمقابل فإن بعض المخطوطات تكتسب أهميتها من أن مؤلفيها ضَمَّنوها ردوداً علمية على كتب لمؤلفين سابقين، فبينوا بذلك شخصياتهم العلمية، ومدى استقلال تفكيرهم، وما أصاب الفكر العلمي من تطور بعد أن وضع السابقون مؤلفاتهم. مثال ذلك مافعله ابن النفيس في شرحه لكتاب التشريح من كتاب القانون لابن سينا، وقد ألمعنا إلى ما أضافه إلى هذا الشرح من ملاحظات مهمة، وشرح محمد بن فخر الدين الآقسَرائي لكتاب (الموجز في الطب) لابن النفيس (ويلكم بلندن والمركز الوطني للمخطوطات ببغداد)، وشرح عز الدين السُّويدي (المتوفى سنة 692هـ/ 1292م) للكتاب نفسه (دار الكتب المصرية، وويلكم بلندن)، وهما مخطوطتان لم تطبعا لحد الآن، فمثل هذه الشروح تقرِّب الأصل إلى إفهام أهل هذا الجيل إلى حدٍ كبير. و- وربما خلا مؤلف المخطوط العلمي من أهمية في ذاته، ولكن كتابه يبقى - مع ذلك - جديرا بالتحقيق، نظراًً لأنه نقل نصوصاً من كتب ضائعة حَوَت ريادة في بعض حقول المعرفة العلمية، أو أنه أشار إلى ترجمات مبكرة لكتب علمية ما كنا نعلم بها، أو بترجمتها، في تلك العهود أصلاً. وكتاب (تذكرة أولي الألباب) لداود الإنطاكي (المتوفى سنة 1008هـ/ 1599م)، يستمد جانبا من أهميته من نقوله المُطوَّلة من كتب عديدة لم تصلنا، ومثله كتاب تلميذه ابن عِوَض المغربي (القرن 11 هـ/17م) المسمى (قطف الأزهار في خصائص المعادن والأحجار) (القادرية ببغداد، وحققته بروين بدري توفيق، بغداد 1990) فإنه اعتمد فيه على كتب عديدة، بالعربية وغيرها، لم يحفظها لنا الزمان، بل لم تصلنا عنواناتها. فمثل هذه الكتب، وإن لم يُظهر مؤلفوها باعاً في التجريب والملاحظة، لكن نُقولهم هذه تجعل مؤلفاتهم، إن كانت مخطوطة، جديرة بالتحقيق. وفي كل الأحوال يجب على المحقق أن يوضح، في مقدمة التحقيق وجه الأهمية العلمية في المخطوط الذي يقدمه لقرائه، كأن يكون في جِدَّة اكتشافاته، أو طبيعة مصطلحاته، أو شرحه لنص علمي سابق عليه، أو قِدَم تأليفه في موضوعه، أو منهج مؤلفه في البحث والتجربة والملاحظة، وغير ذلك من شؤون. 2- الخلفية العلمية للمحقق: هل يكفي لمَن يتصدى لمخطوط علمي، أن يقف في علمه عند ضبط النص كما وضعه مؤلفه متذرعا بتعريف مهمة التحقيق بأنها الإتيان بلفظ المؤلف كما نص على ذلك المشتغلون في هذا العلم، ام أن يتجاوز هذه المهمة إلى مهام أخرى لا تقل أهمية، من شرح للفظ، وتقريب لمعنى، وتفسير لمصطلح، وما إلى ذلك؟. وأقول: إن أسباباً قوية تجعلنا نرى أن من واجب المحقق أن يمضي في عمله، بعد ضبطه للناس، ليتناوله بالتوضيح الضروري لفهمه، إذ لا يكفي ان تزدحم أرفف خزائن الكتب بكتب يتعسّر على أغلب الباحثين والقرّاء فهمها على نحو سليم. إن تحقيق التراث رسالة حضارة يُقصد بها خلق وعي علمي، أو إنماؤه، قبل أن تكون حرفة لمحترف، وإذا كان بعض المحققين، من الأوربيين غالبا، قد اكتفوا من النص بضبطه على نسخ عدة، فذلك لأنهم ما كانوا يخاطبون بصنيعهم هذا إلاّ عدداً من المختصين أمثالهم، وفي دوائر استشراقية ضيقة، ولم تكن مهمتهم، بأي حال، تتجاوز ذلك إلى خلق وعي عام لدى أجيال من الناس بقيمة تراث أمتهم، ودورها الحضاري الذي ينبغي لها أن تستعيد. وهنا تواجه محقق المخطوط العلمي مشكلة فنية قد لايواجه مثلها من يتصدى لتحقيق المخطوطات الأدبية والتاريخية وغيرها، فهذه الكتب لا تحتاج إلاّ إلى متخصص بالتراث، متدرب على فن التحقيق، مُراعٍ لقواعده المستقرة، أما المخطوط الطبي مثلاً فهو يتطلب من محققه أن تكون له ثقافة طبية خاصة إلى جانب ثقافته التراثية العامة، وهكذا الحال بالنسبة للمخطوطات الرياضية والفلكية وغيرها. ومَكمَن هذه الحاجة أن التراثي له القدرة على إنجاز الخطوات الاولى في تحقيق المخطوط، من مُقابَلة، وفهرَسَة، وتقديم، وما إلى ذلك، لكنه غير قادر على فهم مواطن الجدّة في المادة العلمية نفسها، فضلاً عن تقدير أهمية المخطوط نفسه من النواحي التي ألمعنا اليها. وبالمقابل، فإن طبيباً واسع العلم في حقل اختصاصه، لا يقدر على تحقيق مخطوط طبّي، ذلك لأنه غير مطلع على منهج التحقيق، ولا دُرْبة له على التعاون مع نص تراثي قديم، فضلاً عن ضعف تقديره للتراث الطبي كله، لأنه ربما وجد فيه شيئا بالياً تجاوزه علمه منذ عهد بعيد، فلم يعد فيه ما ينفع الناس عمليا. وفي تقديرنا فإن حل هذه المشكلة يمكن أن يكون بأحد أمرين: أ- ان يقوم تعاون بنّاء بين مختصيَن، أحدهما بالتحقيق بوصفه علما قائما بذاته من علوم التاريخ، والآخر بالموضوع العلمي الذي يتناوله المخطوط نفسه، فيتولى الأول تحقيق النص العلمي من جوانبه الفنية، فيستقصى نُسَخَه المتوفرة، ويحدد العلاقات بينها وصولاً إلى أقدمها وأكثرها إتقانا، ويقابل بين هذه النسخة وغيرها بدقة، فيثبت أوجه الاختلاف في الهوامش، وهو عمل يقوم به المحقق لأي كتاب تراثي، مهما كان موضوعه ومجاله. ويتولى الآخر تقدير أهمية هذا النص، مستخرجاً مكامن الجِدّة فيه، ومُعلقا على الجوانب العلمية البحتة بما يقرِّبُها إلى أذهان القرّاء المعاصرين، فيضفي على المخطوط المُحَقق قيمته العلمية، فضلاً عن قيمته التراثية. وتيسيراً لمثل هذه المهمة، صار من واجب المراكز العلمية التراثية في الجامعات ان تتولى تحقيق هذه التعاون بما تملكه من علاقات مع أوساط علمية مختلفة، وما توفره من أجواء تعاون بناء بين مختلف الإختصاصات العلمية والأدبية. وحيث لا يتوفر هذا التعاون، لابد للمحقق إن كان تراثياً أن يُوسِّع من مداركه في العلم الذي يتولى تحقيق نص تراثي فيه، وأن ينمِّي ثقافته العامة بتاريخ ذلك العلم، بل أن يسعى لأن يجعل منه شاغله الأساس، حتى يتمكن من أن يُوفي بمتطلبات التعليق النافع على المادة العلمية التي يضمنها ذلك المخطوط، مثال ذلك تحقيق الأب أنستاس ماري الكرملي لكتاب (نخب الذخائر في معرفة الجواهر) لابن الأكفاني السنجاري (بغداد، 1939)، والدكتور صالح أحمد العلي لكتاب (ما يحتاج اليه الصانع من علم الهندسة) للبُوزجاني (بغداد 1979)، وكاتب هذه السطور لكتاب (الجواهر وصفاتها) ليَحيى بن ماسَوَيْه (القاهرة دار الكتب 1977، وأبو ظبي 2001)، وغيرهم. أما إذا كان المحقق مختصا بالموضوع نفسه كأن يكون طبيباً أو رياضياً أو مهندساً، فلا بد له من الدُرْبة على قراءة المخطوطات التراثية، والقدرة على فهم ألفاظها، ثم المعرفة التامة بقواعد التحقيق نفسه، والمُكنَة على تطبيقها. وقد وجدنا أن من هؤلاء المختصين من ضاهى التراثيين أنفسهم في القدرة على تحقيق النصوص التراثية القديمة، وفهمها، أمثال الدكتور كمال السامرائي والدكتور داود سلمان علي في تحقيقهما لكتاب (أدب الطبيب) لإسحاق الرّهاوي (بغداد 1992)، والسامرائي نفسه في تحقيقه (النافع في كيفية تعليم صناعة الطب) لابن رضوان (بغداد 1997)، والدكتور سلمان قطاية في تحقيقه (كتاب في المعدة وأمراضها ومداواتها) لابن الجزّار القيرواني (بغداد 1980)، والدكتور حازم البكري والدكتور مصطفى شريف العاني في تحقيقهما (نهاية الأفكار ونزهة الأبصار) لابن قاسم الإشبيلي الحريري (بغداد 1979)، والبكري أيضا في تحقيقه لكتاب (تدبير الحُبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم) لابن البَلَدي (بغداد 1980)، وكتاب (من لا يحضره الطبيب) للرازي (بغداد 1991)، ومقالة يحيي بن ماسوية في الجنين، والدكتور رزوق فرج رزوق في تحقيقه (حقائق الاستشهاد في الكيمياء) للطغرائي (بغداد 1982). وغير هؤلاء ممن يضيق المجال عن ذكرهم. ولن تتوفر لهؤلاء القدرة على تحقيق تلك النصوص العسرة غالبا، إلاّ لأنهم عُنوا بالتاريخ عامة، وبتاريخ العلوم التي اختصوا بها، فألفوا فيها دراسات معمقة من قبل أن يتجهوا نحو تحقيق نصوصها. 3- المصطلحات العلمية: تحتل المصطلحات العلمية أهمية خاصة لدى محقق النصوص العلمية البحتة حتى تكاد تكون إحدى اهم المشاكل التي يواجهها في اثناء عمله، وربما لا يعاني محقق النصوص الأدبية والتراثية عامة من مثل هذه المشكلة، فالألفاظ في كتب العلوم تحمل معاني اصطلاحية خاصة لا يفطن اليها إلاّ المحقق الماهر، والقاعدة القائلة بأن على المحقق أن يشرح معاني الألفاظ بالرجوع إلى المعاجم الرئيسية المعتمدة، مثل القاموس واللسان والتاج ونحوها، لا تصح - البتة - عند تحقيق النصوص العلمية، بل أن الرجوع الى كتب اللغة والمعاجم في هذا المجال من شأنه أن يُفقد العمل قيمته، أو يفسده تماما. لنتصور أن محققاً وقف، عند تحقيقه كتابا في الكيمياء، على ألفاظ مثل (الأرواح) و (الأجساد)، ففسَّرها في ضوء معطيات اللغة بمعانيها المعروفة، فماذا ستكون النتيجة، إنه سيُفسد النص تماما، وسيضلل القارئ عن غير قصد منه، فالأرواح هنا هي غازات محددة، والأجساد هي سبعة من المعادن حصراً. وإذا وقف محقق لكتاب في الرياضيات على ألفاظ مثل (السطح) و (الميزان) و (الوِفق)، ولم يعلم معانيها الاصطلاحية بدقة، بأن السطح هو العدد المُرَكب، والحاصل من ضرب عدد بعدد، وأن الميزان هو تحقيق صحة الحل، وأن الوفق هو أكبر عدد ينقسم عليه عددان، ضلَّ عن فهم النص ضلالاً بعيدا. وهكذا الأمر في جميع العلوم، ومن هنا باتت المعاجم، على ضخامة موادّها، غير مُوفية بمتطلبات محققٍ عقد العزم على فهم نص علمي ليكشف عن مكامن الإبداع فيه، وصار واجباً عليه الرجوع الى مناجم معلومات أخرى علّه يستعين بمعطياتها في حلِّ هذه المشكلة. وعلى وفق قاعدة تفسير القرآن بالقرآن نفسه، فإن على المحقق أن يستعين على فهم معنى مصطلح وارد في النص مشروع التحقيق بمعانيه الأخرى في النص نفسه، فإن لم يجد مُبتغاه، فإن عليه أن يجد ضالته في الكتب المعاصرة لذلك النص، مما أُلف في العلم نفسه، ثم بما يلي ذلك زمنا من المؤلفات. وكنا قد أشرنا الى أهمية الشروح والحواشي العلمية في تقريب الأذهان من فحوى نص علمي معين، ونقول أن مكمن هذه الأهمية يتمثل، في أحد جوانبه، بتقريبه معاني المصطلحات التي استخدمها مؤلف الأصل. إن الإدراك الصحيح لمعنى مصطلح ما ربما يكون سببا في اكتشاف حقيقة مغيبة، أو العثور على سبق خطير في ذلك العلم موضوع التحقيق، وبالمقابل، فإن إدراكا سيئا لما يَعنيه مصطلح مُعيِّن، من شأنه أن يضيع على القارئ فرصة التعرف على فكرة مهمة من أفكار النص المحقق، أو على تجربة رائدة من تجارب مؤلفه العلمية. إن المُصطلحات إذن تشبه هنا أن تكون مفاتيح العلم، فمن واجب المحقق أن يُولي هذا الجانب ما يستحقه من عناية واهتمام، وإلاّ لبث المخطوط الذي حققه مغلقا في وجه القراء والباحثين والمحققين التالين الذين يسعون من خلال فهمهم لهذا النص فهم نصوص أخرى يتولون تحقيقها. وكم يكون مفيداً إذا ما ألحَق المحقق بتعريفه لمعنى مصطلح ما ما يقابله من المصطلحات الحديثة المستعملة في مجال العلم موضوع النص المذكور، إنه، إن فعل، سيكون قد وفر على الباحثين فرصة فهم النص فهما عصرياً. 4- أسماء المواد الداخلة في نطاق العلم: وبالإضافة إلى مشكلة المُصَطلح العلمي، فإن على المحقق أن يجهد نفسه في حل مشكلة أخرى تتصل بها، لا تقل عنها صعوبة، وهي ضبط المئات بل الآلاف من أسماء المواد الداخلة في نطاق العلم الذي يحقق مخطوطة فيه، ويزيد الأمر صعوبة أن عدداً كبيراً من تلك الأسماء من أصول لغوية غير عربية، كاليونانية واللاتينية والفارسية والهندية وسواها من اللغات السائدة في العصور الماضية، ومثل تلك الأسماء يصعب ضبطه إلا بجُهدٍ جهيد، لأن نُسَّاخ المخطوطات يجهلون بالطبع طريقة تلفظها، فيُصَحِّفون حروفها تصحيفا بَيِّناً يصعب اكتشاف حقيقته إلا بالرجوع إلى أصل اللغة التي أخذ منها المصطلح نفسه، وقد فعل بعض المحققين ذلك فتوصلوا إلى نتائج مهمة، منهم الأب أنستاس الكرملي في تحقيقه (نُخَب الذخائر)، إذ أعانته معرفته بالعديد من اللغات القديمة على تحديد معاني بعض أسماء الأحجار الكريمة والثمينة، وعلى ضبطها ضبطاً محكماً. ومنهم أيضا الدكتور أدوار القش في تحقيقه لكتاب (القانون) لابن سينا (طبعة بيروت 1987)، فإنه أورد أسماء الأدوية المأخوذة عن الإغريقية بصورتها التي عليها بهذه اللغة، فحلَّ بذلك ما أوجده النُسّاخ من إشكال. وهكذا، فعلى المحقق أن لا يَركُن في ضبطه للفظ معين، إلى صورته في بعض ما يقع تحت يديه من كتب، وإن اشتهرت بين الناس، لأنه يجوز أن يكون الطابع، أو الناشر، قد اعتمد نسخة كتبها ناسخ غير مختص، وهو في الغالب كذلك، فتسلل الخطأ إلى هذه الطبعة، وربما مُسخت الأسماء مسخاً فلم يَعُد ممكناً التوصل إلى حقيقتها إلاّ بجُهد جهيد، ومراجعات كثيرة. وهنا أرى مناسبا الإشارة إلى أننا حينما شرعنا بتحقيق الجزء الخاص بالأحجار والنبات من موسوعة ابن فضل الله العمري المعنونة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) هالنا ما لاحظنا من نقل المؤلف جميع مادة كتابه تقريبا من كتاب (الجامع لقوى الأدوية المفردة) لابن البيطار، ولكننا لما أخذنا بمقابلة المخطوط على النسخة المطبوعة من (الجامع)، وجدنا ثمة اختلافات غير قليلة بين أسماء الأحجار والنبات الوارد في (المسالك)،وبين ما يماثلها في كتاب أبن البيطار، ولم نتوصل إلى صحة أي من اللفظين إلا بعد إن استعنا بكتب تراثية أخرى، فضلا عن مقابلته على لفظه غير العربي الوارد في كتب أخرى، مثل (معجم أسماء النبات) للدكتور أحمد عيسى وغيره. ومن المفيد جدا إن يُرفق المحقق الاسم القديم بما يقابله من الأسماء الحديثة، وبخاصة منها الاسم العلمي الذي هو في الغالب مأخوذ من اللاتينية، لأن في هذا الإرفاق ما يُسهّل على القارئ، إن كان باحثا، تحديد مكونات ذلك المسمى، سواء أكان حجرا، أو نباتا، أو ظاهرة..الخ، من ثم يسهل عليه فهم مضمون النص المحقق فهما علميا معاصرا.



Comments


Featured Review
Tag Cloud
bottom of page