top of page

عرض كتاب: "الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات" لأيمن فؤاد السيد




صدر الكتاب في القاهرة، 1997م، مجلدان.

دفعني للكتابة عن هذا الكتاب أمران:


أوَّلهما: موضوعه الحبيبُ إلى نفسي؛ فقد قُدِّرَ لي أن أعمل بقسم المخطوطات بدار الكتاب خَمْسَ سنين في أوائل الستينات، وأن أكون أوَّلَ باحث يَدرُس المخطوط العربيَّ في نشأته وتطوُّرِهِ دراسةً أكاديمية، قُدِّمَتْ كرسالةِ دكتوراه إلى جامعة القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، في سنة 1967م على وجه التحديد، وما زِلْتُ أَحتفِظُ بأجملِ الذكريات عن الفترة التي عَمِلْتُها في دار الكتب، وعن كلِّ الزملاء الذين سَعِدْتُ بصُحْبَتِهِمْ فيها، سواء كانوا من جيل الزملاء الذين كانوا في ذلك الوقت يُمَثِّلون صَفْوَةً من شباب الباحثين والباحثات، تَجَرَّؤُوا على اقتحام هذا العالم الغامض؛ عالمِ المخطوطات، وتَحَمَّلوا بشجاعة وجَلَد مشقَّةَ العمل في ظروف غير مُوَاتِيَةٍ، وتعاملوا مع نَوْع من أوعية المعلومات أدركه البِلَى، وتنازعَتْهُ الآفاتُ؛ نتيجة لسوء الحفظ وسوء الاستخدام.

مجموعةٌ نادرة منَ الباحثين، لا أظن أنها توافرت لقسم المخطوطات في أيَّةِ فترة أخرى من تاريخه، منهم مَنِ انتقل إلى رحاب الله، ومنهم مَنِ انتقل للتدريس بالجامعة، ومنهم مَنِ اجْتَذَبَتْهُ مناصبُ أخرى خارجَ دار الكتب ووزارةِ الثقافة، ومنهم مَن وصل إلى أعلى المناصب في الدار، ومنهم مَنِ ابتُعثوا إلى دُول عربيَّة صديقة؛ فقاموا بدَوْر مُشَرِّف في فهرسة المخطوطات بها، قِلَّة منهم ما زالت تعمل في مركز تحقيق التراث بدار الكتب في بسالة وصمت، قانعةً بالعمل العلميِّ الجادِّ، غيرَ عابِئَةٍ ببَرِيق الوظائف والمناصب الإدارية، ولهؤلاء جميعاً في نفسي رصيد منَ الحب والتقدير لم يَخْلَقْ على مرور الأيام.

أما دار الكتب؛ فرغم أني تركتها للعمل بالجامعة منذ سنة 1970م، إلا أنني أَعُدُّها بيتي الأول، ولا أظن أنها غابت عن خاطري في يوم من الأيام؛ فأنا أتابع أخبارها وأحوالها، وآسَى لما يصيبها من مكروه، وأَسْعَدُ لكل بارقة أمل تلوح في الأُفق وتُبَشِّر بإصلاح ما أفسده الدهر، وفي تقديري أن كل ما أصابها من فساد أو تَخَلُّفٍ وقع بغير قصد منَ القائمين على أمرها والمسئولين الذين تتابعوا على إدارتها، فقد كان لكلٍّ منهم رُؤْيَتُهُ واجتهادُهُ، وكان لكلٍّ منهم مستشاروه وحَوَارِيُّوهُ، ونحن بَشَر نخطئ ونصيب، وليس عَيْباً أن يخطئ المسئول، ولكن العَيْب كلّ العيب أن يُنَبَّهَ إلى الخطأ فلا يرجع عنه.

هذا هو السبب الأول لإقبالي على قراءة هذا الكتاب، والكتابةِ عنه؛ فهو يتناول موضوعاً أَثِيرًا عندي، ويُثِير في نفسي ذكرياتٍ عزيزةً، تحتفظ بها النفس وديعةً غالية، لفترة من أجمل فترات الحياة، ولمجموعة من الصِّحاب يحتلون في قلبي مكاناً مُتَمَيِّزاً، لم يَبْرَحوه رَغْمَ طول الفِراق.

أما السبب الثاني: فهو أن مؤلِّفَ الكتاب صديق عزيز، وابن صديق عزيز؛ فقد زاملْتُ أباه بِضْعَ سِنِينَ في دار الكتب، كنتُ أَلْقَاهُ كلَّ يوم تقريباً، ولا يكاد يَمْضِي يومٌ دون أن نتناقش ونتحاور في أمور المخطوطات، وفهارسها، وصِيانتها، وتحقيقها، ونَشْرِها؛ فقد كان أمينًا للمخطوطات بالدار، وكان حريصًا على الاحتفاظ بهذا المُسَمَّى لوظيفته دون تغيير، ونَشَرَ عِدَّةَ فَهَارِسَ، وحَقَّقَ كتاب (طبقات الأطباء والحكماء) لابن جلجل، وقدم له بمقدِّمة قَيِّمة تكشف لنا عن قامته العلمية.

أما أَيْمنُ: فقد عَرَفْتُهُ منذُ كان صبياً صغيراً، ثم تابعت مسيرته العلمية في الجامعة وفي الخارج حتى حصل على الدكتوراه، وتابعت جهوده في مجال التحقيق والتأريخ والفهرسة، وأعجبني فيه طُمُوحُهُ وحماسُهُ وغَيْرَتُهُ على التراث، تلك الغَيْرَةُ التي كانت تدفع - في كثير من الأحيان - إلى الحِدَّةِ على مَن يقتحمون المجال بغير علم، ولعل هذه الحِدَّةَ هي التي أفقدته كثيراً من الأرض التي كان يمكن أن يكسبها بجدارة.

فأنا مُحِبٌّ لموضوع الكتاب، ومُحِبٌّ لمؤلفه أيضاً، وبدافع من هذا الحُبِّ قرأتُ الكتاب، وكتبتُ هذه السطور، رغم أني أصبحت من أزهد الناس في الكتابة، كلُّ يوم يمضي يَزِيدُنِي اقتناعي بمَوْقِفِي هذا؛ لكثرة ما يُنْشَرُ من مؤلفات منهوبة، لا يَستَحِي أصحابها، ولا يحترمون درجاتهمُ العلميةَ ومواقِعَهُمُ الأكاديمية، ولا يُطَبِّقون على أنفسهم ما يَتَشَدَّقُونَ به على طُلاَّبِهم، وما يُلقُونَهُ عليهم من محاضراتٍ عن أساسيات البحث العلميِّ، وما ينبغي أن يَتَّسِمَ به من أمانة.

ولهؤلاء وأمثالهم أقول: إن أقدام الزمن ثقيلة، لا يَقوَى عل تحمُّلِها، ولا ينجو من وطأتها إلا العملُ الجيِّدُ، الذي يَفرِض نفسه على الأيام، بصَرْف النظر عن مَوْقِعِ مؤلِّفِهِ، ووَظِيفَتِهِ، ودرجته العلمية، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17].

من أجل ذلك؛ فأنا لا أكتب إلا عن عمل جيِّد يستحق القراءة، أما الأعمال "المضروبة" – على حد تعبير العوامِّ – فلا أُعِيرُها التفاتًا مهما كَثُرَتْ أعدادها، وتضخَّمَتْ أحجامها، وعلا صُراخ أصحابها؛ لأنها تَجْتَرُّ كتاباتِ الآخَرِينَ؛ فهي كغُثاء السَّيْلِ، لا قيمة لها، ولا جديد فيها، ولأن مؤلفيها لم يتجردوا منَ الأمانة العلمية فحَسْبُ، وإنما تَجَرَّدوا مما هو أكثر، وهو الحياء العلميُّ، ومن لا يَحْتَرِمْ نفسه لا يَنْتَظِرْ من الناس أن يحترموه. وأخيراً: لأن وقت الإنسان - الكاتبِ والقارِئِ معاً - أَثْمَنُ من أن يُنْفَقَ فيما لا طائل ورائه، ولا خير فيه.

فالكتاب الذي بين أيدينا صدر عام 1997م بعنوان (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات)، يقع في مجلدين يضمان أكثر من 600 صفحة، بالإضافة إلى 176 لوحة مصورة من المخطوطات. أما مادته العلمية فتتوزع على ثلاثة أبواب: أولها عن الكتاب العربي المخطوط في المصادر، وثانيها عن الكتاب العربي المخطوط كما وصل إلينا، وثالثها النماذج.

وأبادر فأقول: إن الكتاب يكشف عن جهد ضخم بذله مؤلفه في جمع مادته، وإنه يضم معلومات قيمة وموثقة توثيقاً جيداً، وإن إخراجه متميز؛ سواء في ورقة، أو حروف طباعته، أو تجليده، أو اللوحات التوضيحية التي تضمنها وما عليها من شروح، وإنه يسد فراغاً في المكتبة العربية التي ندرت فيها الكتابات الجيدة حول هذا الموضوع، وكثير مما ينشر منقول عن الآخرين بأمانة حيناً، وبغير أمانة أكثر الأحيان*.

ولكني مع ذلك أستأذن المؤلف في أن أسجل بعض الملاحظات التي يغريني بها حبي له ولموضوع الكتاب، وتتلخص تلك الملاحظات فيما يلي:

أولاً: أن عنوان الكتاب هو: الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات، وهو عنوان جيد ولا شك، ولكنه لا يعبر تعبيراً دقيقا عن محتويات الكتاب؛ ففي حديثه عن صناعة المخطوط نراه يتحدث عن الورق والمداد والتجليد والخط، ولكنه لا يذكر شيئاً عن أساليب كتابة المخطوط، والاختصارات والرموز التي كانت تستخدم، وكيفية تصويب الأخطاء، والإلحاق بالحواشي، وغير ذلك من الأمور التي يصعب فهم النص واستيعابه بدون معرفتها، يضاف إلى ذلك أن من يقرأ الكتاب لا يخرج بتصور واضح أو باهت عن علم المخطوطات: ماذا يقصد به المؤلف؟ وما هي حدوده ومجالاته؟

قد يقول قائل: إن المؤلف تحدث عن الفهرسة والتحقيق والنشر، وهي من علوم المخطوطات، ولكن لماذا يترك للقارئ أن يجتهد في جمع خيوط هذا العلم المتفرقة في صفحات لكتاب، والموزعة على البابين، دون رابط يربطها؟! وهل الخط والفهرسة والتحقيق هي كل مجالات علم المخطوطات؟

ثانياً: أن الكتاب يجمع أشتاتًا متفرقة من المعلومات، ولكنه يفتقر إلى وضوح الرؤية في عرض هذه المعلومات بطريقة منطقية، تتسلسل فيها الأفكار وكأنها حلقات متصلة، يأخذ بعضها برقاب بعض، ويستبعد منها ما يشذ بها عن السياق، ولهذا يسهل على القارئ أن يعيد ترتيب عناصر الكتاب دون أن يسبب ذلك خللاً في بنائه؛ بل إن إعادة الترتيب قد تظهره في صورة أفضل.

وتلك نقطة تحتاج إلى بعض الأمثلة التي توضحها:

1 – فقد تحدث عن صناعة المخطوط العربي (الورق والحبر والتجليد) في الباب الأول، في حين تكلم عن زخارف المخطوطات، وعن الإجازات والسماعات والمقابلات في الباب الثاني، وهي موضوعات من صميم صناعة المخطوط.

2- وفي حديثه عن صناعة المخطوط (ص ص 13 – 46) تكلم عن أربعة عناصر، هي: المواد التي يكتب عليها، والأحبار، والتجليد، والتعقيبة. ولا يخفى أن الحديث عن التعقيبة (ص ص 45 – 46) قد أتى في غير موضعه.

3- وفي الباب الأول تحدث عن الخط العربي وتطوره، في حين جاء الحديث عن ضبط الكتابة العربية في الباب الثاني. وفي حديثه عن تطور الخط العربي (ص ص 47 – 72) تعرض للخط العربي المبكر، وخطوط المصاحف المبكرة، وكتاب المصحف، والشكل، والإعجام، وأخيراً تطور الخط العربي (ص ص 55 – 72). والحديث عن كتاب المصحف هنا (ص ص 51 – 52) لا محل له من الإعراب كما يقول النحاة.

4- كذلك تحدث عن الأمالي في باب، وعن المسودات والمبيضات في باب آخر، وكان الأولى أن يلحق الحديث عن المسودات والمبيضات الذي ورد في الباب الثاني بالحديث عن الأمالي في الباب الأول، بدليل أن المؤلف نفسه بدأ كلامه عن المسودات والمبيضات في الباب الثاني بقوله في (ص 331): "استكمالاً لما ذكر في الباب الأول، حول طرق التأليف عند العلماء المسلمين...".

5- وفي الصفحات (364 – 368) يتحدث عن التأليف الأول والتأليف الثاني،وتحت هذا العنوان نجد صفحتين لا صلة لهما بالموضوع، هما (367، 368) اللتان يتحدث فيهما المؤلف عن نسخة من كتاب "الفهرست"، تفرقت بين مكتبة شيستربيتي في دبلن، ومكتبة شهيد علي باشا في إستانبول.

6- وفي (ص ص 369 – 397) يتناول المخطوطات المزينة بالمنمنات؛ فيقسمها إلى قسمين: الكتب الأدبية، والكتب العلمية. وتحت الكتب الأدبية يذكر تصاوير كتابي (البيطرة) و(الحشائش) (ص 382)، مع أنه يذكر (مختصر البيطرة) تحت الكتب العلمية في (ص 387).

ومن مظاهر الخلط في الكتاب أيضاً:

أ- أن المؤلف ذكر في المقدمة (ص 9) أن "هذا الكتاب محاولة لدراسة كوديكولوجيا الكتاب العربي المخطوط في الشرق على وجه خاص". وعرف الكوديكولوجيا في (ص 1) بأنها: "علم خاص بدراسة الشكل المادي للمخطوطات". فهل الفهرسة والتحقيق والنشر، والصيانة والترميم، والمكتبات الإسلامية، وهواة الكتب، ومجموعات المخطوطات في تركيا وأوروبا، وفهارس جامع القيروان والتربة الأشرفية من دراسة الشكل المادي للمخطوطات؟

ب- أنه عندما تعرض للحديث عن فهارس المكتبات القديمة نراه يخلط بين نوعين من الأعمال الببليوجرافية، هما: الفهارس والقوائم الببليوجرافية. فالكتب التي تحصي مؤلفات كاتب معين، أو الكتابات التي صدرت في موضوع معين، أو المترجمات في عصر معين (ص ص 521 – 523) – مثلاً – ليست فهارس، وإنما هي قوائم ببليوجرافية، أو ببليوجرافيات حصرية.

ج- أنه وضع في (ص 545) عنواناً يقول: "تحقيق المخطوطات ونشرها، أو الدراسات الفيلولوجية للمخطوط". وعرف الدراسة الفيلولوجية في الصفحة نفسها بأنها: "التي تُعنى بنص الكتاب، ومضمونه العلمي الذي كتبه المؤلف بنفسه، والتي اصطلح على تسميتها (تحقيق النصوص)". وأريد أن أسأله: من الذي اصطلح على هذه التسمية؟ إن للألفاظ دلالاتها اللغوية، ولبعضها دلالات اصطلاحية يستخدمها أهل الاختصاص، وأتصور أن أيمن يعدني من أهل الاختصاص، ولكني لا أعرف أحداً استخدم مصطلح (الدراسة الفيلولوجية) بديلاً عن (التحقيق).

وأيمن درس في فرنسا، فهلا رجع إلى المعاجم الفرنسية ليتأكد من أن المصطلحين ليسا مترادفين؟

ثالثاً: ويتصل بالنقطة السابقة الخاصة بالمنهج وطريقة العرض؛ أن المؤلف يفصِّل حينما تتوافر لديه معلومات عن موضوع معين، ويوجز أو يصمت تماماً حينما تعز عليه المعلومات، دون أن يحاول استكمال الصورة، وسد الخلل فيها. وكان ينبغي أن يضع لنفسه منهجاً محدداً، وأن يلتزم خطاً واضحاً ينتظم جميع أفكاره، وكأنها حبات من الجوهر تنسجم في عقد جميل. ومن الأمثلة على صدق ما أقول:

1- أنه ذكر في (ص 80) أكثر من عشر طرق للتأليف، ولكنه لم يتحدث إلا عن الترجمة (ص ص 80 – 85)، ثم الأمالي (ص ص 85 – 94)، ولا يخفى أن الترجمة ليست تأليفاً، وأن الأمالي ليست الطريقة الوحيدة للتأليف.

2- أنه عندما تحدث عن المكتبات الإسلامية وهواة الكتب (ص ص 233 – 288) لم يذكر من مكتبات العصر الحديث سوى مجموعتين من المكتبات المهداة لدار الكتب المصرية، هما مجموعة مصطفى فاضل ومجموعة أحمد تيمور (ص ص 278 – 288).

3- أنه عندما ذكر وثائق الوقف الشاملة (ص ص 443 – 447) اقتصر حديثه على النقل من دراسة عبد اللطيف إبراهيم لوثيقتين، إحداهم مملوكية، والأخرى عثمانية، وختم حديثه بنقل نص من دفتر الشيخ خالد النقشبندي المجددي بمكتبة الأسد، يقف فيه الكتب الموجودة بمكتبته على ذريته، دون أي تعليق!!.

4-= أنه عندما أراد التعريف بمجموعات المخطوطات العربية في العالم لم يتعرض إلا لتركيا (ص ص 510 – 512)، وأوربا (ص ص 512 – 520)، وعندما أراد الحديث عن فهارس المكتبات القديمة ( ص 521) ذكر كلاماً عاماً، ثم ركز على فهرست خزانة التربة الأشرفية وسجل مكتبة جامع القيروان ( ص ص 526 – 530)، وكأن فهارس هاتين المكتبتين هي أهم فهارس المكتبات الإسلامية.

5- أنه يشير في (ص 538) إلى مشروع تطوير دار الكتب المصرية، ويذكر أنه كلف به في مايو 1992، وأن هذا المشروع يقدم "بيانات ببليوجرافية كاملة عن مؤلفي هذه الكتب، وعن ما نشر منها، سواء في طبعات علمية محققة، أو نشرات تجارية" ثم يذكر في (ص 540) أن العمل توقف في المشروع في أغسطس 1993. وقد صدر كتابه في يولية 1997، أي بعد أربع سنوات من توقف المشروع، ولست أدري كيف يطوي تلك الصفحة بهذه السهولة دون أن يحدثنا عما تم إنجازه من المشروع الذي كلف به، وعن أسباب توقفه، وهل هناك أمل في بعثه من جديد؟

لقد ذكر أنه بدأ العمل في أول قاعدة بيانات من نوعها عن المخطوطات العربية، وأن هذه القاعدة توافرت لها إمكانات كبيرة، تكفل لها الاستمرار والنجاح. فماذا أصابها؟ وأين ذهب قرار "التكليف"؟

6- أنه تحت عنوان: إتاحة المخطوطات (ص 541) قصر حديثه على منع الاطلاع على المخطوطات الأصلية بدار الكتب بالقاهرة منذ أكتوبر 1986، وعلى القيود التي تفرضها الدار على تصوير المخطوطات، وأنا أتفق معه ومع ويتكام في الرأي، ولكني أذكره بأن الكتاب ليس عن مخطوطات دار الكتب المصرية، وإنما عن (المخطوطات العربية وعلم المخطوطات).

رابعاً: أن الإطناب سمة عامة في الكتاب، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نذكر منها أن به خمسين صفحة (ص ص 955 – 145) عن اهتمام القدماء بالنسخ الأصلية، وأكثر من ستين صفحة (ص ص 167 – 230) عن الوراقين والعلماء المشهورين بجودة الخط، وهذا كثير بجميع المعايير.

خامساً: أنه يفرط في ذكر النماذج. صحيح أن النماذج مطلوبة، ولكن ليس بهذه الصورة الاستفزازية، خاصة أن المؤلف يكتفي بعرضها دون أن يخضعها للدراسة والتحليل، والاستنباط والتفسير، ومن الأمثلة على ذلك الصفحات (331 – 360) التي تقدم نماذج للمسودات والمبيضات، و(402 – 415) التي تعرض نماذج لقيد الفراغ من النسخة، و(428 – 442) التي تقدم نماذج للوقف، و(454 – 472) التي تذكر نماذج للتمليكات والهبات، والنسخ المكتوبة لخزائن العلماء، و(485 – 5077) التي تعرض نماذج من الإجازات، وروايات الكتب، وقيود التصحيح والمقابلة والمعارضة، وبعض هذه النماذج يسرف في الطول كما في (ص ص 436 – 438).

سادساً: أنه يلوي أعناق بعض النصوص، ويحملها فوق ما تحتمل، ويستنتج منها أشياء لا تبوح بها؛ ففي (ص 466) - مثلاً - يتحدث عن التعقيبات، وأنها وجدت في مخطوطات القرن الثالث الهجري، ويستشهد على ذلك بقوله: "ويؤكد ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في ترجمة أبي الحسن علي بن المغيرة الأثرم.." وينقل نصاً لا صلة له بالتعقيبات من قريب أو بعيد، نصاً مؤداه أن إسماعيل بن صبيح الكاتب أحضر الأثرم، ودفع إليه كتب أبي عبيدة لينسخها، وأن الأثرم كان يقرأ على أبي عبيدة ويسمعه. ويعقب على ذلك بقوله: "فهذا الذي فعله الأثرم لا يمكن أن يتم إلا إذا كان هناك نوع من الترقيم، هو دون شك التعقيبة".

سابعاً: أنه يصدر أحكاماً شخصية قاطعة لا يقوم عليها أي دليل، ومثال ذلك عبارة "دون شك" التي وردت في تعليقه على نسخ الأثرم لكتب أبي عبيدة في الفقرة السابقة، وقوله في (ص 524): "فلا شك أن جميع المكتبات الإسلامية منذ أول مكتبة أنشأها خالد بن يزيد بن معاوية كانت لها فهارس تعرِّف بمقتنياتها". وقد امتدت هذه الأحكام إلى المخطوطات والكتب، فهو في (ص 13) ينقل عن إبراهيم شبوح - دون أن يذكر ذلك - أن كتاب (عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب): "أشمل ما وضع في صناعة الكتاب المخطوط". وفي (ص 37) يصف كتاب (التيسير في صناعة التسطير) للشيخ بكر بن إبراهيم الإشبيلي بأنه: "أشمل كتاب تناول موضوع تجليد الكتب". وفي (ص 74) يصف كتاب (تاريخ التراث العربي) لسزجين بأنه: "أحسن ما كتب في هذا الموضوع". وفي (ص 304) يقول: إن مصحف أما جور هو: "أول المصاحف الكوفية التي وصلت إلينا". ويبدو أن مؤلفنا مغرم بأفعل التفضيل، بدءاً من اسمه، وانتهاء بالأوصاف التي يحلو له أن يخلعها على الكتب والمؤلفين.

ثامناً: أنه يتجاهل نسبة الآراء إلى أصحابها في بعض الأحيان؛ فحديثه في (ص ص 99، 5233) عن الأعمال الببليوجرافية السابقة التي نقل عنها ابن النديم في (فهرسته) - ولاحظ البعد بين النصين - يعتمد أساساً على ما كتبه كاتب هذه السطور عن نشأة على الببليوجرافيا عند المسلمين، ونشر في مجلة (الدارة). ع3 – 4، السنة الثانية، (شوال 1396هـ/ أكتوبر 1976م)، وأعيد نشره في كتاب (دراسات في الكتب والمكتبات) سنة 1988. ومع ذلك لم يشر المؤلف إلى المصدر، ولم يذكره في قائمة المراجع. وكثير مما ذكره عن الوراقة والوراقين اعتمد فيه على كتاب (المخطوط العربي)، وكان ينبغي الإشارة إلى هذا الكتاب على الأقل في (ص 149) التي يناقش فيها شكوى أبي حيان من كساد الوراقة، وفي (ص ص 150 – 151) اللتين يتحدث فيهما عن أنواع الوراقين، وفي (ص ص 161 – 162) اللتين يتحدث فيهما عن انتحال الوراقين للكتب، دون أن يخل ذلك بذكر المصادر القديمة التي اكتفى بها المؤلف.

تاسعاً: أن لغة الكتاب جيدة، وأسلوبه سلس، ومع ذلك فلم يسلم من الأخطاء النحوية، ومن بعض الصياغات السقيمة؛ فمن الأخطاء النحوية:

أ- قوله في (ص2 - سطر 23): "ولا نجد فيها مقدمات أو فصول مستقلة...".

ب- وقوله في (ص 380 - سطر 5): "وهي تمثل رجل ملتحيينحني على الأرض، ويسحب جمل ينحني برأسه أيضاً إلى الأرض".

ج- وقوله في (ص 444 - سطر 20): "تذكر لنا أنواع مختلفة من جلود الكتب والمصاحف".

د- وقوله في (ص 546 - سطر 17): "وضع بلاشير وسفاجيهقواعداً لنشر وترجمة النصوص العربية".

ومن الصياغات السقيمة: ما جاء في (ص 535) من أنه في فهرسة النسخة المخطوطة "يشار إلى إذا كانت ألفاظها مضبوطة بالحركات.. وإلى إذا كانت عناوين أبوابها وفصولها بخط أكبر من خط المتن.. ويشار كذلك إلى إذا كان بالنسخة تذهيب أو منمنات".

عاشرً: أن الكتاب تضمن بعض الآراء التي أرجو أن يتسع صدر المؤلف لمناقشتها معه بهدوء، وأن يراجع نفسه إذا استبان له وجه الصواب فيها، ومن هذه الآراء:

1- رفضه الرأي القائل بأن الحديث النبوي الشريف لم يدون إلا في القرن الثاني الهجري؛ فهو يتبنى رأي يوسف العش، وينقل عنه في (ص 73) أنه "اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي التتبع والاستقصاء، أن الحديث ظل أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظاً، دون أن يكتبوه". ويعقب على ذلك بقوله: إن "الدراسات المتوافرة لدينا - فيما عدا استثناءات طفيفة - تصر عل مفهوم خاطئ، مؤداه أن الرواية الإسلامية لم تكن إلا شفوية"، وإن الخطيب البغدادي ألف كتابه (تقييد العلم) "ليوضح فيه خطأ هذه الفكرة".

ويستطرد فيقول في (ص ص 74 – 75): "ثم توافر على درس هذه القضية العالم التركي فؤاد سزجين في كتابه (تاريخ التراث العربي) الذي يعد أحسن ما كتب في هذا الموضوع، ووصل فيه إلى نتائج هامة سأعتمد عليها فيما يلي؛ فهو يرى أن هذا المفهوم الخاطئ والغريب يرجع إلى سوء فهم الرواية الإسلامية ذات الشكل المتميز الفريد".

وأريد أن أسأل أيمن فؤاد عن رأيه في الأحاديث الصحيحة التي لا يرقى إليها شك، والتي تنهى عن كتابة الحديث نهياً صريحاً جازماً، وأريد أن أسأله أيضًا: أيهما أولى بالتصديق: الخطيب البغدادي أم فؤاد سزجين؟ وكيف فهم من كلام الخطيب في (تقييد العلم) أنه أراد بكتابه "أن يوضح خطأ هذه الفكرة". أية فكرة يا سيدي؟! المسألة ببساطة أن الخطيب البغدادي وجد أحاديث صحيحة تنهي عن كتابة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم، وأحاديث أخرى صحيحة أيضاً تبيح الكتابة، فجمع هذه بأسانيدها في فصل، وجمع تلك بأسانيدها في فصل ثانٍ، وعقد فصلاً ثالثاً لمناقشة القضية، انتهى فيه إلى أن الأصل هو النهي عن كتابة الحديث النبوي، والاستثناء هو الإباحة، وعلل النهي عن الكتابة بأمرين: أولهما: خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يخلط المسلمون في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الدعوة بين آيات القرآن الكريم - التي كانت تترى، ولم يكن قد اكتمل نزولها بعد - وبين أحاديثه - صلى الله عليه وسلم. أما السبب الثاني: فهو حرصه - صلى الله عليه وسلم - على ألا يركن المسلمون إلى الكتابة ويتركوا الحفظ، وفى الحالات التي اطمأن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الصحابة لن يخلطوا بين كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم؛ كان يبيح لهم الكتابة، كما فعل مع عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي الحالات التي كانت تستعصي فيها الذاكرة؛ كان يبيح الكتابة أيضاً، كما فعل بالنسبة لأبي شاة، الذي قدم من اليمن ليتلقى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ذاكرته كانت في إجازة مفتوحة، وخشي أن يعود إلى اليمن وقد نسى كل ما سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم؛ فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اكتبوا لأبي شاة)).

لن يفهم سزجين من كلام الخطيب أكثر مما نفهم، ولا ينبغي أن نستنبط من النصوص إلا ما تبوح به طواعية، ثم إن أيمن نفسه يعترف في (ص 76) بأن عمر عبد العزيز كلف محمد بن حزم بمهمة جمع الأحاديث، وأن ابن شهاب الزهري "أول من دون الحديث"، ولن ينقض هذا الرأي إلا ظهور كتب في الحديث النبوي ترجع إلى القرن الأول الهجري.

2- أنه يرهق المفهرسين من أمرهم عسراً شديداً، ويحملهم ما لا طاقة لهم به، حين يطالبهم في (ص 536) بأن يحددوا إذا كان الكتاب قد سبق نشره، وأن يذكروا أماكن هذا النشر وتواريخه، وليس ذلك من مهام المفهرسين؛ للسبب نفسه المذكور في الفقرة السابقة، ففي الأعمال الببليوجرافية يمكن أن تذكر هذه المعلومة، أما المفهرس فإن مهمته تنحصر في التعريف بالنسخة التي أمامه، وليس مطالباً بأن يتتبع النسخ الأخرى من المخطوط، أو أن يبحث إن كان قد نشر أم لا؟ ومتى نشر؟ وأين نشر؟.

3- أنه يطالب مفهرسي المخطوطات في (ص 537) بالإشارة إلى تواريخ مجموعات المخطوطات المختلفة، وأصحاب هذه المجموعات، وذلك أيضاً من لزوم ما لا يلزم.

وبعد... فقد سعدت بقراءة كتاب أيمن فؤاد سيد عن (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات)، وأختم حديثي بما بدأته به؛ وهو الإشادة بالجهد الكبير الذي بذله المؤلف في جمع مادة كتابه، وبالتوثيق الدقيق لمعلوماته، وبأهمية اللوحات التي أثرى بها الكتاب.

وكلي أمل في أن ينظر في كل ما ذكرته هنا من تعليقات وتساؤلات؛ حتى تصدر الطبعة الثانية من الكتاب أكثر نضجاً، وأعمق تأصيلاً لعلم المخطوطات.

留言


Featured Review
Tag Cloud
bottom of page